محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
أولا : نماذج في السفر والجهد
1. عبدالله بن سبأ
2. دعاة الباطنية
3. اليهود ودولة إسرائيل
4. المنصرون
5. طلاب الدنيا
6. المغتربون
ثانياً : التضحية بالوقت
ثالثاً: الإنفاق وبذل الأموال
رابعاً: الأذى والمخاطر
خامساً: تحمل الفشل والإحباط
• ومن الشباب من يألمون
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد:
فلا شك أيها الأخوة أنكم تدركون أن هذا العنوان جزء من آية كريمة يقول فيها تبارك وتعالى: [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون].
إن حمل هذا الدين والقيام بأمانة تبليغه للبشرية أجمع، لأولئك الذين تسمّوا به وقصروا في الالتزام به والوفاء بحقه، أو أولئك الذين لمّا يدخلوا في هذا الدين بعد، إن حمل هذا الدين والقيام بأعبائه أمر صعب شاق على النفوس، وإن القيام بهذا الجهد لا يمكن أبداً أن يكافئه أي جهد في دنيا الناس.
ومن هنا كان هذا الدين يحتاج في حمله إلى نفوس أبيّة، إلى نفوس جادة، يحتاج الحاملون لهذا الدين والقائمون به إلى مزيد من رفع الهمة ، وإلى مزيد من الجدية حتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدين ولتحمّل أعباء نشره ومواجهة ما يواجههم في هذا الطريق، ولا شك أن هذا القرآن وهو يربي هذه الأمة ، يربيها على تقوى الله عز وجل وتوحيده وعبادته، ويربيها على الخلق والسلوك ، ويربيها على حمل أعباء هذا الدين والقيام بهذه الأمانة التي ائتمن الله عز وجل هذه الأمة عليها، لا شك أن هذا القرآن يخاطب القلوب البشرية ويخاطب الناس بكافة وسائل الخطاب وأساليبه، وليس أعظم أثراً لدى الناس من النماذج الحية التي تُعرض أمامهم؛ فالحديث النظري يحفز الكثير من الناس، لكن الصورة الحية التي يرونها بأعينهم ، أو يقرؤون عنها فتتخيلها أذهانهم وكأنهم يرونها رأي العين ، لاشك أن هذه الصورة تترك أعظم الأثر لدى الناس، إنك حين تسمع حديثاً عن رجل أصيب بحادث هشم عظامه، وأصاب جسمه بآلام مبرّحة، يترك ذلك أثراً عظيماً في نفسك ، لكنه لا يصل إلى درجة رؤيتك هذا الرجل أمامك وهو يتشحّط بدمائه ، وربما استطاع كاتب مبدع مُجيد أن يصور لك هذا المشهد وكأنك تراه بأم عينيك، فيترك أمام ناظريك صورة ربما لا تبتعد عن تلك الصورة التي رايتها شاخصة ببصرك، ولهذا يؤكد القرآن على هذه القضية فيعرض القدوات والنماذج الحية أمام هذه الأمة.
يخبر الله تبارك وتعالى أن الابتلاء سنة لمن دخل في طريق الإيمان :[أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون]، ثم يعرض القرآن أمام هؤلاء نموذجاً حيًّا من حياة السابقين الماضين، ليجعل هذه القضية شاخصة أمام أعينهم، وأن الابتلاء ليس أمراً خاصًّا بهم، قال تبارك وتعالى: [ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين] ، إذاً فالفتنة على طريق الإيمان ليست قضية خاصة بهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن ، وليست قضية خاصة بهذه الأمة، إنما هي سنة ماضية.
وفي القرآن الكريم حديث عن سنة لا تتخلف في قيام هذه الدعوات وانتصارها ، يقول تبارك وتعالى : [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب]، أتظنون أنكم تدخلون الجنة؟ أتظنون أن دعواكم تصدق بالإيمان والقيام بهذا الدين ولمّا يصيبكم ما أصاب من كان قبلكم ؟ لقد مستهم البأساء والضراء حتى يتساءل الرسول وهو أعلم الناس بوعد الله ، وحتى يتساءل المؤمنون معه [متى نصر الله]؟ وهو سؤال يحمل في طياته عظم ما كان يعانيه هؤلاء من البلاء والمضايقة.
وفي آية أخرى يبين الله عز وجل طبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا النصر والتمكين لهذه الأمة [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين] ، إذاً فالنصر والتمكين للدين إنما يأتي حين يستيئس الرسل، وحين يظن أقوامهم المكذبون أن هؤلاء الرسل قد كُذبوا ما وُعدوا.
وفي غزوة أحد حين أصاب المؤمنين ما أصابهم، فعادوا من تلك الغزوة وما من بيت إلا وفيه قتيل أوجريح، وقد افتقدوا سبعين من خيارهم ومن صلحائهم وكانوا يظنون أنها ساعة وتأتي الدولة لهم.. يقول تبارك وتعالى مخبراً لهم أن هذه السنة سنة الماضين من قبل [وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين] .
فسنة هذه الأمة هي سنة الأولين السابقين سيصيبهم ما أصابهم، وما تلبث هذه النماذج حيث تعرض على المؤمنين الصادقين الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ويتدبرون معانيه، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الأمل في تلك النفوس التي ربما أصابها ما أصابها من اليأس والقنوط ، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الحماس وأن ترفع الهمة لتلك النفوس التي ربما أصابها الضعف والفتور والقنوط.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نرى نماذج من ذلك ، جاء إليه أحد أصحابه وهو خباب - رضي الله عنه - يشتكي إليه ما أصابه من المشركين وقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم لأنه قرأ في حديث خباب الاستعجال واستبطاء وعد الله عز وجل؛ فقعد صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق باثنين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون". إنها سنة الماضين من قبلكم، ويمضى خباب - رضي الله عنه - وقد سمع هذا التثبيت والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، يمضي بنفس صادقة جادة وعزيمة أبيّة يستمد من هذه النماذج التي عرضها له صلى الله عليه وسلم روحاً تدفعه إلى مزيد من الصبر على الابتلاء والصبر على الأذى والمضايقة، وتدفعه إلى الشعور بالأمل والاستبشار وإلى أن يطرح اليأس عنه جانباً، وأن يعلم أنه إن يصيبه ما أصابه فقد أصاب السابقين قبله ما هو فوق ذلك بكثير.
ويحكي صلى الله عليه وسلم أيضاً نموذجاً آخر فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: كأني انظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يقول:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
إن المبادئ ليست رخيصة، وإن إصلاح المجتمعات لا يمكن أن يتم بجهود مبعثرة ونفوس هينة كسولة، إنه يحتاج إلى أن يُدفع لذلك ثمن باهظ، يحتاج إلى أن يكون أشرفُ خلق الله عز وجل يتعرضون لمثل هذا الأمر حتى يمسح أحدهم الدم عن وجهه وهو يقول : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
بل أخبر الله عز وجل عن بعض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا يُقتلون بغير حق؛ فحكى القرآن كثيراً عن بني إسرائيل أنهم يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.
إن عرض هذه النماذج الحية لها أثر عظيم في نفوس المؤمنين الصادقين الجادين، والذين يرون أن هذه قدوات أمامهم، ولهذا قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم-وقد حكى سير طائفة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم-: [أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين]، وهي ليست دعوة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو خطاب له ولأصحابه وللأمة أجمع أن يقتدوا بهدي أولئك الأنبياء.
وفي القرآن نماذج من أخبار أتباع الأنبياء الذين ساروا على طريقهم، واحتملوا في سبيل هذا الدين المشاق والمكاره، كقصة أهل الكهف الذين اختاروا أن يعيشوا في كهف خشن بعيد عن الناس، وأصحاب الأخدود الذين اختاروا أن يقذفوا في نار الدنيا، وكان هذا أحب إليهم من أن يعودوا إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه؛ فكانوا أهلاً لأن يذوقوا حلاوة الإيمان ولذة الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يُكره أن يقذف في النار".
إن هذه النماذج وحدها كافية في دفع أصحاب الهمم الضعيفة وفي دفع الكسالى إلى أن يدفعوا عنهم الكسل والخمول، وأن يأخذوا بالجد والعزيمة في الدعوة لدين الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الخير في دنيا الناس ، لكن القرآن يعرض أمام المسلمين نموذجاً آخر: ذلكم هو النموذج المنحرف، النموذج الضال، لقد كان المسلمون ربما يشعرون بنوع من اليأس والألم ويصيبهم الإحباط وهم يواجهون أعداء الله عز وجل، فيثير فيهم القرآن الكريم النظر إلى جانب آخر ربما كان له دور عظيم في إحياء نفوسهم، يقول تبارك وتعالى : [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون] لا يصيبكم الوهن ولا الضعف وأنتم تبتغون القوم في الجهاد والدعوة ، وأن تبذلوا ما تبذلون، فإن كنتم تألمون وتدفعون الثمن فأولئك يألمون كما تألمون، إن كان يسقط منكم شهداء فأولئك يسقط منهم قتلى، إن كنتم تبذلون الوقت والجهد فأولئك يبذلون كما تبذلون.
ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى : [إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء] .
إذن فالقضية ليست حكراً على المؤمنين، ولا على الذين يحملون الدعوة الصادقة، إنما هي سنة الله عز وجل في كل من يريد أن يحمل مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، فهو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن ينشر مبدأً سواءً أكان حقّاً أم باطلاً، هو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن يدعو إلى عقيدة سواءً أكانت عقيدة صحيحة أم كانت عقيدة ضالة ، لاشك أن الذي يريد هذا المطلب النفيس الغالي لابد أن يدفع الثمن، ومن ثَمّ كان المؤمنون الصادقون الداعون إلى الله عز وجل وهم ينشرون دعوة الحق والتي لا حَقّ سواها، وهم ينشرون هذا المبدأ الصادق والذي تهون دونه سائر المبادئ كان هؤلاء بحاجة إلى عرض هذا النموذج، فلئن كان طريقكم شاقاً فطريق الآخرين كذلك، وأنتم تزيدون عليهم أنكم أصحاب هدف سام ونية صادقة [وترجون من الله مالايرجون] أنتم تشعرون أن كل ما تبذلونه ستلقون جزاءه عند الله عز وجل في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، أما هؤلاء فهم حطب جهنم.
فإلى نماذج مما يبذله أهل الدنيا سواءً أكانوا من حطب جهنم: أهل المذاهب الضالة الذين يدعون إلى سبيل الشيطان، أو من أولئك الذين يريدون تحصيل شهوات الدنيا وحطامها وثمنها العاجل، إنها نماذج من الذين يكدحون ويعملون في هذه الدنيا وهم لا يعملون لدين الله عز وجل، وإن اختلفت نواياهم وتباينت مواقفهم، ما بين داعٍ إلى سبيل الشيطان، وما بين رجل يبتغي الدنيا ويبتغي الشهوات.
إننا نسمع الكثير عن بذل المشقة والسفر وسائر ألوان المشاق في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وربما تهتز نفوسنا شوقاً إلى مثل هذه الأعمال والجهود، ويتمنى كل واحد منا أن يبذل جهداً في الدعوة إلى دين الله عز وجل، ولو دعاه ذلك إلى تحمل المشقة وتحمل الصعاب وتحمل السفر، لكن حين تريد ذلك فلا تظن أنك وحدك تفعل ذلك، بل هاهم طلاب الدنيا وأرباب الدنيا يدفعون الثمن الباهظ لذلك ومن هذه النماذج:
أولا : نماذج في السفر والجهد
1. عبدالله بن سبأ
لاشك أنكم تعلمون سيرته، وأنه رجل يهودي تظاهر بالدخول في دين الإسلام حتى يهدم فيه من الداخل، لقد سافر هذا الرجل وتردد بين الأمصار، من مصر إلى الكوفة إلى اليمن إلى هنا وهناك، كل هذا الأمر لأجل أن يجمع الأحزاب ويؤلبهم على هدم دولة الإسلام وعلى إثارة الفتن والقلاقل على خليفة المسلمين عثمان - رضي الله عنه -، وبذل في ذلك ما بذل من الجهد والسفر وبذل الأموال الطائلة حتى يدعو إلى هذا المذهب الضال ، وحتى يحقق ما يريد، واستجاب له طائفة من الرعاع، وبذلوا نفوسهم في معارك أثاروها، وما موقعة الجمل وموقعة صفّين ومقتل عمر - رضي الله عنه - ومقتل عثمان ومقتل علي - رضي الله عنهم - أجمعين وتلك الفتن التي ذهب ضحيتها خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ما تلك الفتن أجمع إلا حصاد جهد بذله أولئك من السهر والسفر والمشقة.
2. دعاة الباطنية
حين نشأ هؤلاء الدعاة وأول ما بدأ أمرهم أرسلوا رسلهم ودعاتهم وممن تحمل مشقة السفر والغربة في ذلك داعيتان من دعاة الباطنية وهما: علي بن الفضل والمنصور بن حسن بن زادان… واللذان ذهبا إلى بلاد اليمن وتظاهرا بالصلاح والنسك والعبادة حتى صدقهم الناس واتبعوهم ثم أعلنوا دعوتهم الباطلة الضالة وقام داعيتهم على المنبر في اليمن هناك قائلاً :
خذ السيف يا هذه واضــرب *** وغني حنانيك لي واطربـــي
تــولى نــبي بني هاشــمٍ *** وجاء نـــبي بني عــربِ
وذكر قصيدته التي هي مليئة بالكفر والضلال والدعوة لهؤلاء الباطنيين ونحلتهم، وذكر فيها إباحة الخمر والنساء :
وما الخمر إلا كماء السماء *** حلال فقد سن من مذهبِ
ولقد بذل أولئك مشقة السفر والغربة والتنكّب، وجمعوا الأموال في سبيل الدعوة إلى تلك النِحلة الضالة الباطلة ، ثم انتقلت دعوتهم بعد ذلك إلى بلاد المغرب وبذلوا فيها ما بذلوا ، وكانوا يتخفون ويصيبهم ما أصابهم حتى استطاعوا أن يقيموا دولتهم المشهورة بدولة العبيديين، وذهبوا بعد ذلك إلى قلعة آلموت والذي كان زعيمهم في ذلك الحسن بن الصبّاح والذي أنشأ فرقة الحشاشين.
أتظنون أن أولئك الضالين استطاعوا أن يدعوا بدعوتهم تلك ويقيموا دولتهم وهم قاعدون كسالى؟ أم أنهم تحملوا الغربة والمشقة والسفر وواجهوا ما واجهوا في سبيل الشيطان؟